تصريح مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك بعد زيارته مدينة رفح في مصر

تصريح مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك بعد زيارته مدينة رفح في مصر

لقد عدت للتو من معبر رفح، شريان الحياة الرمزي لنحو 2.3 مليون شخص في غزة خلال الشهر الماضي.

لكنّ شريانَ الحياة هذا كان ضعيفاً بشكلٍ غيرِ منصف ومثيرٍ للغضب.

في رفح، رأيت البوابات المؤدية إلى ذلك الكابوس المستمر. كابوس يختنق خلاله الناس تحت القصف المتواصل، يبكون على فقدان أسَرِهم، ويكافحون بحثاً عن الماء والغذاء والكهرباء والوقود. 

زملائي من بين المحاصرين، ومن بين أولئك الذين فقدوا أفراداً من عائلاتهم، يعانون من ليالٍ بلا نوم مليئةٍ بالعذاب والغضب واليأس.

لقد وُصفت غزة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم، تحت 56 عاماً من الاحتلال و16 عاماً من الحصار من قبل إسرائيل. 

إن الفظائع التي ارتكبتها الجماعات الفلسطينية المسلحة في 7 تشرين الأول/أكتوبر كانت شنيعة، وحشية وصادمة. كانت جرائمَ حرب، وكذلك هو استمرار احتجاز الرهائن.

والعقاب الجماعي الذي تفرضه إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين يرقى هو أيضاً إلى جريمة حرب، مثله مثل الإخلاء القسري غير القانوني للمدنيين. وقد أدى القصف المكثف إلى مقتل وجرح وتشويه النساء والأطفال على وجه الخصوص. الحصيلة الأخيرة للقتلى من وزارة الصحة في غزة تشير إلى مقتل 10500 شخص، منهم 4300 طفل و2800 امرأة. كل هذا له أثر لا يُحتمل على المدنيين.

لقد سقطنا في الهاوية. ولا يمكن لهذا الوضع أن يستمر.

حتى في سياق الاحتلال المستمر منذ 56 عاماً، فإن الوضع الحالي هو الأكثر خطورة منذ عقود، بالنسبة إلى الناس في غزة وإسرائيل والضفة الغربية، ولكن أيضاً على المستوى الإقليمي.

خلال زيارتي هنا، سمعت الكثير من المخاوف عن معايير مزدوجة في التعامل مع هذا الصراع. دعوني أكون واضحاً: لا يمكن للعالم أن يحتمل كلفة المعايير المزدوجة. وعلينا بدلاً من ذلك أن نؤكد على المعايير العالمية التي يجب نقيّم هذا الوضع على أساسها، وهي القوانين الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.

وهذه المعايير واضحة: على أطراف النزاع الالتزام بالتأكد دائماً من تحييد السكان المدنيين والمنشآت المدنية، وهو ما يبقى قابلاً للتطبيق طوال مدة الصراع. إن أفعال أحد الطرفين لا تعفي الطرف الآخر من التزاماته بموجب القانون الدولي الإنساني. فالهجمات ضد المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي والجرحى والمرضى محظورة.

كما يجب إيصال المساعدات إلى كل المحتاجين. ودور مصر أساسي في نواحٍ كثيرة، إذ لا غنى عنه في إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة وفي إخراج المصابين منها. لكن المساعدات التي تصل هزيلة، وتغطي مساحة جغرافية محدودة جداً. 

التزامات إسرائيل كقوة احتلال لا تزال سارية بشكل كامل. وهو ما يتطلب منها ضمان وصول أكبر قدر من ضروريات الحياة إلى كل من يحتاج إليها.

فالناس ما زالوا بحاجة للمساعدة في كل أنحاء غزة. وهناك ضرورة إنسانية ملحة للوصول إلى السكان الذين تتعمق عزلتهم، بما في ذلك في المناطق الشمالية والوسطى من القطاع، الذين تنقطع عنهم المساعدات المحدودة للغاية التي تدخل غزة.

في الأيام القليلة الماضية، تلقى زملائي تقارير عن دار للأيتام في المحافظة الشمالية تضم 300 طفل بحاجة إلى مساعدة عاجلة. ومع انقطاع الاتصالات، والطرق غير السالكة وغير الآمنة، ليس باستطاعتنا أن نصل إلى هؤلاء الأيتام.

خلال الشهر الفائت، شهدت غزة على الأقل ثلاثة انقطاعات كاملة في الاتصالات، مما أدى إلى عزل الفلسطينيين هناك عن عائلاتهم داخل القطاع وعن العالم الخارجي. ولانقطاع التيار الكهربائي عواقب وخيمة على عمال الإنقاذ الذين يكافحون للعثور على ضحايا القصف وإنقاذهم. ذلك فضلا عن عواقبه على الأسر التي تحاول معرفة حالة أحبائها والحصول على الرعاية الصحية الطارئة، وعلى عملية رصد الأوضاع على الأرض وتوثيقها.

أما الصحافيون الذين يحاولون توثيق الأحداث في غزة وتغطيتها، فيدفعون الثمن بحياتهم. فقد قتل 32 صحافياً فلسطينياً على الأقل في القطاع الشهر الماضي.

اليوم، في مستشفى العريش بشمال سيناء، التقيت بإكرام. إكرام سيدة كانت حاملاً في شهرها الثامن عندما أصيبت بشظية في بطنها. فقدت جنينها واضطرت للخضوع إلى عملية استئصال للرحم. هي ما زالت حيّة لكن عينيها كانتا بلا حياة. التقيت أيضاً بمحمد، وعمره 12 عاماً، من جباليا، ويعاني من إصابات في العمود الفقري وكسور في العظام. وصل محمد إلى رفح بدون مرافق. ويقول إنه لا يتذكر ما حدث، لكن الصدمة كانت واضحة على وجهه.

 

إن ما يريدنا المتطرفون أن نفعله هو أن ننظر إلى العالم بلونين: إما أبيض أو أسود، من دون أي قيمة للألم الذي يشعر به الجانب الآخر. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بالانجرار إلى هذه النظرة أحادية اللون للعالم.

أشعر في أعماقي بالألم والمعاناة الهائلة لكل شخص قُتل أحباؤه – في كيبوتز، في مخيم للاجئين الفلسطينيين، خلال الاحتماء في مبنى، أو أثناء فرارهم بحثاً عن أمان بعيد المنال. علينا جميعاً أن نشعر بهذا الألم المشترك، وأن نضع حداً لهذا الكابوس.

وإنني أدعو الآن بشكل مستعجل كلّ الأطراف إلى الاتفاق على وقف إطلاق النار، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف مُلحّة تتعلق بحقوق الإنسان، تجب تلبيتها في آن معاً:

فنحن بحاجة إلى إيصال احتياجات إنسانية بمستويات هائلة إلى جميع أنحاء غزة.

ونحن بحاجة أيضاً إلى إطلاق سراح جميع الرهائن المحتجزين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، فوراً ومن دون شروط.

وبشكل ضروري جداً، نحتاج إلى تمكين الحيز السياسي من تحقيق نهاية دائمة للاحتلال، مبنيةٍ على حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين في تقرير المصير، وعلى مصالحهم الأمنية المشروعة.

لم يعد كافياً القول فقط إن الاحتلال المستمر منذ 56 عاماً يجب أن ينتهي. فالمجتمع الدولي يجب أن يكون جزءاً من إيجاد مستقبل عادل ومنصف للفلسطينيين والإسرائيليين.

هم الأمل الوحيد لبعضهم البعض في تحقيق السلام.

By haidar